سورة الملك من السور الهامة في حياة الإنسان لذلك وجب عليك أن تتعلم تفسير سورة الملك لما لها من فضل عظيم فقد قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر الله له (تبارك الذي بيده الملك) ” [رواه الترمذي عن أبي هريرة] وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأها فهي المانعة التي تمنع قارئها من عذاب القبر أو تمنعه من الذنوب المؤدية إلى عذاب القبر.
تفسير سورة الملك التفسير الميسر
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
تكاثر خير الله وبرُّه على جميع خلقه, الذي بيده مُلك الدنيا والآخرة وسلطانهما, نافذ فيهما أمره وقضاؤه, وهو على كل شيء قدير. ويستفاد من الآية ثبوت صفة اليد لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله.
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)
الذي خلق الموت والحياة؛ ليختبركم – أيها الناس-: أيكم خيرٌ عملا وأخلصه؟ وهو العزيز الذي لا يعجزه شيء, الغفور لمن تاب من عباده. وفي الآية ترغيب في فعل الطاعات, وزجر عن اقتراف المعاصي.
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)
الذي خلق سبع سموات متناسقة, بعضها فوق بعض, ما ترى في خلق الرحمن- أيها الناظر- من اختلاف ولا تباين, فأعد النظر إلى السماء: هل ترى فيها مِن شقوق أو صدوع؟
ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
ثم أعد النظر مرة بعد مرة, يرجع إليك البصر ذليلا صاغرًا عن أن يرى نقصًا, وهو متعب كليل.
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)
ولقد زيَّنا السماء القريبة التي تراها العيون بنجوم عظيمة مضيئة, وجعلناها شهبًا محرقة لمسترقي السمع من الشياطين, وأعتدنا لهم في الآخرة عذاب النار الموقدة يقاسون حرها.
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6)
وللكافرين بخالقهم عذاب جهنم, وساء المرجع لهم جهنم.
إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7)
إذا طُرح هؤلاء الكافرون في جهنم سمعوا لها صوتًا شديدًا منكرًا, وهي تغلي غليانًا شديدًا.
تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)
تكاد جهنم تتمزق مِن شدة غضبها على الكفار, كلما طُرح فيها جماعة من الناس سألهم الموكلون بأمرها على سبيل التوبيخ: ألم يأتكم في الدنيا رسول يحذركم هذا العذاب الذي أنتم فيه؟
قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9)
أجابوهم قائلين: بلى قد جاءنا رسول مِن عند الله وحذَّرنا, فكذَّبناه, وقلنا فيما جاء به من الآيات: ما نزَّل الله على أحد من البشر شيئًا, ما أنتم – أيها الرسل- إلا في ذهاب بعيد عن الحق.
وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)
وقالوا معترفين: لو كنا نسمع سماع مَن يطلب الحق, أو نفكر فيما نُدْعى إليه, ما كنا في عداد أهل النار.
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
فاعترفوا بتكذيبهم وكفرهم الذي استحقوا به عذاب النار, فبعدًا لأهل النار عن رحمة الله.
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)
إن الذين يخافون ربهم, فيعبدونه, ولا يعصونه وهم غائبون عن أعين الناس, ويخشون العذاب في الآخرة قبل معاينته, لهم عفو من الله عن ذنوبهم, وثواب عظيم وهو الجنة.
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوْ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)
وأخفوا قولكم- أيها الناس- في أي أمر من أموركم أو أعلنوه, فهما عند الله سواء, إنه سبحانه عليم بمضمرات الصدور, فكيف تخفى عليه أقوالكم وأعمالكم؟
أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)
ألا يعلم ربُّ العالمين خَلْقه وشؤونهم، وهو الذي خَلَقهم وأتقن خَلْقَهُمْ وأحسنه؟ وهو اللطيف بعباده, الخبير بهم وبأعمالهم.
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
الله وحده هو الذي جعل لكم الأرض سهلة ممهدة تستقرون عليها, فامشوا في نواحيها وجوانبها, وكلوا من رزق الله الذي يخرجه لكم منها, وإليه وحده البعث من قبوركم للحساب والجزاء. وفي الآية إيماء إلى طلب الرزق والمكاسب, وفيها دلالة على أن الله هو الإله الحق وحده لا شريك له، وعلى قدرته, والتذكير بنعمه, والتحذير من الركون إلى الدنيا.
أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)
هل أمنتم- يا كفار “مكة”- الله الذي فوق السماء أن يخسف بكم الأرض, فإذا هي تضطرب بكم حتى تهلكوا؟ هل أمنتم الله الذي فوق السماء أن يرسل عليكم ريحا ترجمكم بالحجارة الصغيرة, فستعلمون- أيها الكافرون- كيف تحذيري لكم إذا عاينتم العذاب؟ ولا ينفعكم العلم حين ذلك. وفي الآية إثبات العلو لله تعالى, كما يليق بجلاله سبحانه.
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)
ولقد كذَّب الذين كانوا قبل كفار “مكة” كقوم نوح وعاد وثمود رسلهم, فكيف كان إنكاري عليهم, وتغييري ما بهم من نعمة بإنزال العذاب بهم وإهلاكهم؟
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنْ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)
أغَفَل هؤلاء الكافرون, ولم ينظروا إلى الطير فوقهم, باسطات أجنحتها عند طيرانها في الهواء, ويضممنها إلى جُنوبها أحيانًا؟ ما يحفظها من الوقوع عند ذلك إلا الرحمن. إنه بكل شيء بصير لا يُرى في خلقه نقص ولا تفاوت. بل مَن هذا الذي هو في زعمكم- أيها الكافرون- حزب لكم ينصركم من غير الرحمن, إن أراد بكم سوءًا؟ ما الكافرون في زعمهم هذا إلا في خداع وضلال من الشيطان. بل مَن هذا الرازق المزعوم الذي يرزقكم إن أمسك الله رزقه ومنعه عنكم؟ بل استمر الكافرون في طغيانهم وضلالهم في معاندة واستكبار ونفور عن الحق, لا يسمعون له, ولا يتبعونه.
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
أفمن يمشي منكَّسًا على وجهه لا يدري أين يسلك ولا كيف يذهب, أشد استقامة على الطريق وأهدى, أم مَن يمشي مستويًا منتصب القمة سالمًا على طريق واضح لا اعوجاج فيه؟ وهذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن.
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
قل لهم -أيها الرسول-: الله هو الذي أوجدكم من العدم, وجعل لكم السمع لتسمعوا به, والأبصار لتبصروا بها, والقلوب لتعقلوا بها, قليلا- أيها الكافرون- ما تؤدون شكر هذه النعم لربكم الذي أنعم بها عليكم. قل لهم: الله هو الذي خلقكم ونشركم في الأرض, وإليه وحده تُجمعون بعد هذا التفرق للحساب والجزاء.
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)
ويقول الكافرون: متى يتحقق هذا الوعد بالحشر يا محمد؟ أخبرونا بزمانه أيها المؤمنون, إن كنتم صادقين فيما تدَّعون, قل -أيها الرسول- لهؤلاء: إن العلم بوقت قيام الساعة اختصَّ الله به, وإنما أنا نذير لكم أخوِّفكم عاقبة كفركم, وأبيِّن لكم ما أمرني الله ببيانه غاية البيان.
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
فلما رأى الكفار عذاب الله قريبًا منهم وعاينوه، ظهرت الذلة والكآبة على وجوههم، وقيل توبيخًا لهم: هذا الذي كنتم تطلبون تعجيله في الدنيا.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِي اللَّهُ وَمَنْ مَعِي أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28)
قل -أيها الرسول- لهؤلاء الكافرين: أخبروني إن أماتني الله ومَن معي من المؤمنين كما تتمنون، أو رحمنا فأخَّر آجالنا، وعافانا مِن عذابه، فمَن هذا الذي يحميكم، ويمنعكم من عذاب أليم موجع؟
قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29)
قل: الله هو الرحمن صدَّقنا به وعملنا بشرعه، وأطعناه، وعليه وحده اعتمدنا في كل أمورنا، فستعلمون- أيها الكافرون- إذا نزل العذاب: أيُّ الفريقين منا ومنكم في بُعْدٍ واضح عن صراط الله المستقيم؟
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: أخبروني إن صار ماؤكم الذي تشربون منه ذاهبًا في الأرض لا تصلون إليه بوسيلة، فمَن غير الله يجيئكم بماء جارٍ على وجه الأرض ظاهر للعيون؟
سورة الدخان مكتوبة كاملة بالتشكيل
تفسير سورة الملك تفسير الجلالين
تفسير سورة الملك مختصر من كتاب تفسير الجلالين
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
(تبارك) تنزه عن صفات المحدثين (الذي بيده) في تصرفه (الملك) السلطان والقدرة (وهو على كل شيء قدير)
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)
(الذي خلق الموت) في الدنيا (والحياة) في الآخرة أوهما في الدنيا فالنطفة تعرض لها الحياة وهي ما به الاحساس والموت ضدها أو عدمها قولان والخلق على الثاني بمعنى التقدير (ليبلوكم) ليختبركم في الحياة (أيكم أحسن عملا) أطوع لله (وهو العزيز) في انتقامه ممن عصاه (الغفور) لمن تاب إليه.
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)
(الذي خلق سبع سماوات طباقا) بعضها فوق بعض من غير مماسة (ما ترى في خلق الرحمن) لهن أو لغيرهن (من تفاوت) تباين وعدم تناسب (فارجع البصر) أعده إلى السماء (هل ترى) فيها (من فطور) صدوع وشقوق.
ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
(ثم ارجع البصر كرتين) كرة بعد كرة (ينقلب إليك البصر خاسئا) ذليلا لعدم إدراك الخلل (وهو حسير) منقطع عن روية خلل.
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)
(ولقد زينا السماء الدنيا) القربى إلى الأرض (بمصابيح) بنجوم (وجعلناها رجوما) مراجم (للشياطين) إذا استرقوا السمع بأن بنفصل شهاب عن الكواكب كالقبس يؤخذ من النار فيقتل الجني أو يخبله لا أن الكواكب يزول عن مكانه (وأعتدنا لهم عذاب السعير) النار الموقدة.
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7)
(وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير) هي
(إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا) صوتا منكرا كصوت الحمار (وهي تفور) تغلي.
تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)
(تكاد تميز) وقرىء تتميز على الأصل تتقطع (من الغيظ) غضبا على الكافر (كلما ألقي فيها فوج) جماعة منهم (سألهم خزنتها) سؤال توبيخ (ألم يأتكم نذير) رسول ينذركم عذاب الله تعالى.
قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9)
(قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن) ما (أنتم إلا في ضلال كبير) يحتمل أن يكون من كلام الملائكة للكفار حين اخبروا بالتكذيب وأن يكون من كلام الكفار للنذر.
وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)
(وقالوا لو كنا نسمع) أي سماع تفهم (أو نعقل) عقل تفكر (ما كنا في أصحاب السعير)
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
(فاعترفوا) حيث لا ينفع الاعتراف (بذنبهم) وهو تكذيب النذر (فسحقا) بسكون الحاء وضمها (لأصحاب السعير) فبعدا لهم عن رحمة الله.
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)
(إن الذين يخشون ربهم) يخافون (بالغيب) في غيبتهم عن أعين الناس فيطيعونه سرا فيكون علانية أولى (لهم مغفرة وأجر كبير) أي الجنة.
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوْ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)
(وأسروا) أيها الناس (قولكم أو اجهروا به إنه) تعالى (عليم بذات الصدور) بما فيها فكيف بما نطقتم وسبب نزول ذلك أن المشركين قال بعضهم لبعض أسروا قولكم لا يسمعكم إلاه محمد.
أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)
(ألا يعلم من خلق) ما تسرون أينتفي علمه بذلك (وهو اللطيف) في علمه (الخبير) فيه.
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
(هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا) سهلة للمشي فيها (فامشوا في مناكبها) جوانبها (وكلوا من رزقه) المخلوق لأجلكم (وإليه النشور) من القبور للجزاء.
أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)
(أأمنتم) بتحقيق الهمزتين وتسهيل الثانية وإدخال ألف بينهما وبين الأخرى وتركه وإبدالها ألفا (من في السماء) سلطانه وقدرته (أن يخسف) بدل من من (بكم الأرض فإذا هي تمور) تتحرك بكم وترتفع فوقكم.
أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)
(أم أمنتم من في السماء أن يرسل) بدل من من (عليكم حاصبا) ريحا ترميكم بالحصباء (فستعلمون) عند معاينة العذاب (كيف نذير) إنذاري بالعذاب أنه حق.
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)
(ولقد كذب الذين من قبلهم) من الأمم (فكيف كان نكير) إنكاري عليهم بالتكذيب عند إهلاكهم أي أنه حق.
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
(أولم يروا إلى) ينظرون (الطير فوقهم صافات) في الهواء (ويقبضن) باسطات أجنحتهن (ما) أجنحتهن بعد البسط أي وقابضات (يمسكهن إلا) عن الوقوع في حال البسط والقبض (الرحمن إنه) بقدرته (بكل شيء بصير) المعنى ألم يستدلوا بثبوت الطير في الهواء على قدرتنا أن نفعل بهم ما تقدم وغيره من العذاب.
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنْ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20)
(أم من) مبتدأ (هذا) خبره (الذي) بدل من هذا (هو جند) أعوان (لكم) صلة الذي (ينصركم) صفة جند (من دون الرحمن) أي غيره يدفع عنكم عذابه أي لا ناصر لكم (إن) ما (الكافرون إلا في غرور) غرهم الشيطان بأن العذاب لا ينزل بهم.
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)
(أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك) الرحمان (رزقه) أي المطر عنكم وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي فمن يرزقكم أي لا رازق لكم غيره (بل لجوا) تمادوا (في عتو) تكبر (ونفور) تباعد عن الحق.
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
(أفمن يمشي مكبا) واقعا (على وجهه أهدى أم من يمشي سويا) معتدلا (على صراط) طريق (مستقيم) وخبر من الثانية محذوف دل عليه خبر الأولى أي أهدى والمثل في المؤمن والكافر أيهما على هدى.
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (23)
(قل هو الذي أنشأكم) خلقكم (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) القلوب (قليلا ما تشكرون) ما مزيدة والجملة مستأنفة مخبرة بقلة شكرهم جدا على هذه النعم.
قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
(قل هو الذي ذرأكم) خلقكم (في الأرض وإليه تحشرون) للحساب.
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)
(ويقولون) للمؤمنين (متى هذا الوعد) وعد الحشر (إن كنتم صادقين) فيه.
(قل إنما العلم) بمجيئه (عند الله وإنما أنا نذير مبين) بين الانذار.
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
(فلما رأوه) أي العذاب بعد الحشر (زلفة) قريبا (سيئت) اسودت (وجوه الذين كفروا وقيل) أي قال الخزنة لهم (هذا) العذاب (الذي كنتم به) بانذاره (تدعون) أنكم لا تبعثون وهذه حكاية حال تأتي عبر عنها بطريق المضي لتحقيق وقوعها.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِي اللَّهُ وَمَنْ مَعِي أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29)
(قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي) من المؤمنين بعذابه كما تقصدون (أو رحمنا) فلم يعذبنا (فمن يجير الكافرين من عذاب أليم) أي لا مجير لهم منه.
(قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون) بالتاء والياء عند معاينة العذاب (من هو في ضلال مبين) بين أنحن أم أنتم أم هم.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
(قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا) غائرا في الأرض (فمن يأتيكم بماء معين) جار تناله الأيدي والدلاء كمائكم أي لا يأتي به إلا الله تعالى فكيف تنكرون أن يبعثكم ويستحب أن يقول القارىء عقب معين الله رب العالمين كما ورد في الحديث وتليت هذه الآية عند بعض المتجبرين فقال تأتي به الفؤوس والمعاول فذهب ماء عينه وعمي نعوذ بالله من الجرأة على الله وعلى آياته.
تفسير سورة الملك تفسير السعدي
تفسير سورة الملك للشيخ عبدالرحمن السعدي
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
{ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } أي: تعاظم وتعالى، وكثر خيره، وعم إحسانه، من عظمته أن بيده ملك العالم العلوي والسفلي، فهو الذي خلقه، ويتصرف فيه بما شاء، من الأحكام القدرية، والأحكام الدينية، التابعة لحكمته، ومن عظمته، كمال قدرته التي يقدر بها على كل شيء، وبها أوجد ما أوجد من المخلوقات العظيمة، كالسماوات والأرض.
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)
وخلق الموت والحياة أي: قدر لعباده أن يحييهم ثم يميتهم؛ { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } أي: أخلصه وأصوبه، فإن الله خلق عباده، وأخرجهم لهذه الدار، وأخبرهم أنهم سينقلون منها، وأمرهم ونهاهم، وابتلاهم بالشهوات المعارضة لأمره، فمن انقاد لأمر الله وأحسن العمل، أحسن الله له الجزاء في الدارين، ومن مال مع شهوات النفس، ونبذ أمر الله، فله شر الجزاء.
{ وَهُوَ الْعَزِيزُ } الذي له العزة كلها، التي قهر بها جميع الأشياء، وانقادت له المخلوقات.
{ الْغَفُورُ } عن المسيئين والمقصرين والمذنبين، خصوصًا إذا تابوا وأنابوا، فإنه يغفر ذنوبهم، ولو بلغت عنان السماء، ويستر عيوبهم، ولو كانت ملء الدنيا.
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)
{ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا } أي: كل واحدة فوق الأخرى، ولسن طبقة واحدة، وخلقها في غاية الحسن والإتقان { مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ } أي: خلل ونقص.
وإذا انتفى النقص من كل وجه، صارت حسنة كاملة، متناسبة من كل وجه، في لونها وهيئتها وارتفاعها، وما فيها من الشمس والقمر والكواكب النيرات، الثوابت منهن والسيارات.
ولما كان كمالها معلومًا، أمر [الله] تعالى بتكرار النظر إليها والتأمل في أرجائها، قال:
{ فَارْجِعِ الْبَصَرَ } أي: أعده إليها، ناظرًا معتبرًا { هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } أي: نقص واختلال.
ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
{ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ } المراد بذلك: كثرة التكرار { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ } أي: عاجزًا عن أن يرى خللًا أو فطورًا، ولو حرص غاية الحرص.
ثم صرح بذكر حسنها فقال:
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7)
أي: ولقد جملنا { السَّمَاءَ الدُّنْيَا } التي ترونها وتليكم، { بِمَصَابِيحَ } وهي: النجوم، على اختلافها في النور والضياء، فإنه لولا ما فيها من النجوم، لكانت سقفًا مظلمًا، لا حسن فيه ولا جمال.
ولكن جعل الله هذه النجوم زينة للسماء، [وجمالا]، ونورًا وهداية يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، ولا ينافي إخباره أنه زين السماء الدنيا بمصابيح، أن يكون كثير من النجوم فوق السماوات السبع، فإن السماوات شفافة، وبذلك تحصل الزينة للسماء الدنيا، وإن لم تكن الكواكب فيها، { وَجَعَلْنَاهَا } أي: المصابيح { رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ } الذين يريدون استراق خبر السماء، فجعل الله هذه النجوم، حراسة للسماء عن تلقف الشياطين أخبار الأرض، فهذه الشهب التي ترمى من النجوم، أعدها الله في الدنيا للشياطين، { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ } في الآخرة { عَذَابِ السَّعِيرِ } لأنهم تمردوا على الله، وأضلوا عباده، ولهذا كان أتباعهم من الكفار مثلهم، قد أعد الله لهم عذاب السعير، فلهذا قال: { وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } الذي يهان أهله غاية الهوان.
{ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا } على وجه الإهانة والذل { سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا } أي: صوتًا عاليًا فظيعًا، { وَهِيَ تَفُورُ } .
تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)
{ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ } أي: تكاد على اجتماعها أن يفارق بعضها بعضًا، وتتقطع من شدة غيظها على الكفار، فما ظنك ما تفعل بهم، إذا حصلوا فيها؟” ثم ذكر توبيخ الخزنة لأهلها فقال: { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } ؟ أي: حالكم هذا واستحقاقكم النار، كأنكم لم تخبروا عنها، ولم تحذركم النذر منها.
قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9)
{ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ } فجمعوا بين تكذيبهم الخاص، والتكذيب العام بكل ما أنزل الله ولم يكفهم ذلك، حتى أعلنوا بضلال الرسل المنذرين وهم الهداة المهتدون، ولم يكتفوا بمجرد الضلال، بل جعلوا ضلالهم، ضلالًا كبيرًا، فأي عناد وتكبر وظلم، يشبه هذا؟
وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
{ وَقَالُوا } معترفين بعدم أهليتهم للهدى والرشاد: { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } فنفوا عن أنفسهم طرق الهدى، وهي السمع لما أنزل الله، وجاءت به الرسل، والعقل الذي ينفع صاحبه، ويوقفه على حقائق الأشياء، وإيثار الخير، والانزجار عن كل ما عاقبته ذميمة، فلا سمع [لهم] ولا عقل، وهذا بخلاف أهل اليقين والعرفان، وأرباب الصدق والإيمان، فإنهم أيدوا إيمانهم بالأدلة السمعية، فسمعوا ما جاء من عند الله، وجاء به رسول الله، علمًا ومعرفة وعملًا.
والأدلة العقلية: المعرفة للهدى من الضلال، والحسن من القبيح، والخير من الشر، وهم -في الإيمان- بحسب ما من الله عليهم به من الاقتداء بالمعقول والمنقول، فسبحان من يختص بفضله من يشاء، ويمن على من يشاء من عباده، ويخذل من لا يصلح للخير.
قال تعالى عن هؤلاء الداخلين للنار، المعترفين بظلمهم وعنادهم: { فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ } أي: بعدًا لهم وخسارة وشقاء.
فما أشقاهم وأرداهم، حيث فاتهم ثواب الله، وكانوا ملازمين للسعير، التي تستعر في أبدانهم، وتطلع على أفئدتهم!
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)
لما ذكر حالة الأشقياء الفجار، ذكر حالة السعداء الأبرار فقال: { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ } أي: في جميع أحوالهم، حتى في الحالة التي لا يطلع عليهم فيها إلا الله، فلا يقدمون على معاصيه، ولا يقصرون فيما أمر به { لَهُمْ مَغْفِرَةٌ } لذنوبهم، وإذا غفر الله ذنوبهم؛ وقاهم شرها، ووقاهم عذاب الجحيم، ولهم أجر كبير وهو ما أعده لهم في الجنة، من النعيم المقيم، والملك الكبير، واللذات [المتواصلات]، والمشتهيات، والقصور [والمنازل] العاليات، والحور الحسان، والخدم والولدان.
وأعظم من ذلك وأكبر، رضا الرحمن، الذي يحله الله على أهل الجنان.
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوْ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)
هذا إخبار من الله بسعة علمه، وشمول لطفه فقال: { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ } أي: كلها سواء لديه، لا يخفى عليه منها خافية، فـ { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي: بما فيها من النيات، والإرادات، فكيف بالأقوال والأفعال، التي تسمع وترى؟!
أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)
ثم قال -مستدلا بدليل عقلي على علمه-: { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } فمن خلق الخلق وأتقنه وأحسنه، كيف لا يعلمه؟! { وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } الذي لطف علمه وخبره، حتى أدرك السرائر والضمائر، والخبايا [والخفايا والغيوب]، وهو الذي { يعلم السر وأخفى } ومن معاني اللطيف، أنه الذي يلطف بعبده ووليه، فيسوق إليه البر والإحسان من حيث لا يشعر، ويعصمه من الشر، من حيث لا يحتسب، ويرقيه إلى أعلى المراتب، بأسباب لا تكون من [العبد] على بال، حتى إنه يذيقه المكاره، ليتوصل بها إلى المحاب الجليلة، والمقامات النبيلة.
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
أي: هو الذي سخر لكم الأرض وذللها، لتدركوا منها كل ما تعلقت به حاجتكم، من غرس وبناء وحرث، وطرق يتوصل بها إلى الأقطار النائية والبلدان الشاسعة، { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا } أي: لطلب الرزق والمكاسب.
{ وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } أي: بعد أن تنتقلوا من هذه الدار التي جعلها الله امتحانًا، وبلغة يتبلغ بها إلى الدار الآخرة، تبعثون بعد موتكم، وتحشرون إلى الله، ليجازيكم بأعمالكم الحسنة والسيئة.
أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)
هذا تهديد ووعيد، لمن استمر في طغيانه وتعديه، وعصيانه الموجب للنكال وحلول العقوبة، فقال: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } وهو الله تعالى، العالي على خلقه.
{ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } بكم وتضطرب، حتى تتلفكم وتهلككم.
أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)
{ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } أي: عذابًا من السماء يحصبكم، وينتقم الله منكم { فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } أي: كيف يأتيكم ما أنذرتكم به الرسل والكتب، فلا تحسبوا أن أمنكم من الله أن يعاقبكم بعقاب من الأرض ومن السماء ينفعكم، فستجدون عاقبة أمركم، سواء طال عليكم الزمان أو قصر، فإن من قبلكم، كذبوا كما كذبتم، فأهلكهم الله تعالى، فانظروا كيف إنكار الله عليهم، عاجلهم بالعقوبة الدنيوية، قبل عقوبة الآخرة، فاحذروا أن يصيبكم ما أصابهم.
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
وهذا عتاب وحث على النظر إلى حالة الطير التي سخرها الله، وسخر لها الجو والهواء، تصف فيه أجنحتها للطيران، وتقبضها للوقوع، فتظل سابحة في الجو، مترددة فيه بحسب إرادتها وحاجتها.
{ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ } فإنه الذي سخر لهن الجو، وجعل أجسادهن وخلقتهن في حالة مستعدة للطيران، فمن نظر في حالة الطير واعتبر فيها، دلته على قدرة الباري، وعنايته الربانية، وأنه الواحد الأحد، الذي لا تنبغي العبادة إلا له، { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } فهو المدبر لعباده بما يليق بهم، وتقتضيه حكمته.
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنْ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20)
يقول تعالى للعتاة النافرين عن أمره، المعرضين عن الحق: { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ } أي: ينصركم إذا أراد بكم الرحمن سوءًا، فيدفعه عنكم؟ أي: من الذي ينصركم على أعدائكم غير الرحمن؟ فإنه تعالى هو الناصر المعز المذل، وغيره من الخلق، لو اجتمعوا على نصر عبد، لم ينفعوه مثقال ذرة، على أي عدو كان، فاستمرار الكافرين على كفرهم، بعد أن علموا أنه لا ينصرهم أحد من دون الرحمن، غرور وسفه.
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)
{ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } أي: الرزق كله من الله، فلو أمسك عنكم رزقه، فمن الذي يرسله لكم؟ فإن الخلق لا يقدرون على رزق أنفسهم، فكيف بغيرهم؟ فالرزاق المنعم، الذي لا يصيب العباد نعمة إلا منه، هو الذي يستحق أن يفرد بالعبادة، ولكن الكافرون { لَجُّوا } أي: استمروا { فِي عُتُوٍّ } أي: قسوة وعدم لين للحق { وَنُفُورٍ } أي: شرود عن الحق.
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
أي: أي الرجلين أهدى؟ من كان تائها في الضلال، غارقًا في الكفر قد انتكس قلبه، فصار الحق عنده باطلًا، والباطل حقًا؟ ومن كان عالمًا بالحق، مؤثرًا له، عاملًا به، يمشي على الصراط المستقيم في أقواله وأعماله وجميع أحواله؟ فبمجرد النظر إلى حال هذين الرجلين، يعلم الفرق بينهما، والمهتدي من الضال منهما، والأحوال أكبر شاهد من الأقوال.
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (23)
يقول تعالى – مبينًا أنه المعبود وحده، وداعيًا عباده إلى شكره، وإفراده بالعبادة-: { قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ } أي: أوجدكم من العدم، من غير معاون له ولا مظاهر، ولما أنشأكم، كمل لكم الوجود بالسمع والأبصار والأفئدة، التي هي أنفع أعضاء البدن وأكمل القوى الجسمانية، ولكنه مع هذا الإنعام { قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ } الله، قليل منكم الشاكر، وقليل منكم الشكر.
قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
{ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ } أي: بثكم في أقطارها، وأسكنكم في أرجائها، وأمركم، ونهاكم، وأسدى عليكم من النعم، ما به تنتفعون، ثم بعد ذلك يحشركم ليوم القيامة.
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)
ولكن هذا الوعد بالجزاء، ينكره هؤلاء المعاندون { وَيَقُولُونَ } تكذيبًا:
{ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } جعلوا علامة صدقهم أن يخبروا بوقت مجيئه، وهذا ظلم وعناد فإنما العلم عند الله لا عند أحد من الخلق، ولا ملازمة بين صدق هذا الخبر وبين الإخبار بوقته، فإن الصدق يعرف بأدلته، وقد أقام الله من الأدلة والبراهين على صحته ما لا يبقى معه أدنى شك لمن ألقى السمع وهو شهيد.
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
يعني أن محل تكذيب الكفار وغرورهم به حين كانوا في الدنيا، فإذا كان يوم الجزاء، ورأوا العذاب منهم { زُلْفَةً } أي: قريبًا، ساءهم ذلك وأفظعهم، وقلقل أفئدتهم، فتغيرت لذلك وجوههم، ووبخوا على تكذيبهم، وقيل لهم هذا الذي كنتم به تكذبون، فاليوم رأيتموه عيانًا، وانجلى لكم الأمر، وتقطعت بكم الأسباب ولم يبق إلا مباشرة العذاب.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِي اللَّهُ وَمَنْ مَعِي أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28)
ولما كان المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم، [الذين] يردون دعوته، ينتظرون هلاكه، ويتربصون به ريب المنون، أمره الله أن يقول لهم: أنتم وإن حصلت لكم أمانيكم وأهلكني الله ومن معي، فليس ذلك بنافع لكم شيئًا، لأنكم كفرتم بآيات الله، واستحققتم العذاب، فمن يجيركم من عذاب أليم قد تحتم وقوعه بكم؟ فإذًا، تعبكم وحرصكم على هلاكي غير مفيدة، ولا مجد لكم شيئًا.
قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29)
ومن قولهم، إنهم على هدى، والرسول على ضلال، أعادوا في ذلك وأبدوا، وجادلوا عليه وقاتلوا، فأمر الله نبيه أن يخبر عن حاله وحال أتباعه، ما به يتبين لكل أحد هداهم وتقواهم، وهو أن يقولوا: { آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } والإيمان يشمل التصديق الباطن، والأعمال الباطنة والظاهرة، ولما كانت الأعمال، وجودها وكمالها، متوقفة على التوكل، خص الله التوكل من بين سائر الأعمال، وإلا فهو داخل في الإيمان، ومن جملة لوازمه كما قال تعالى: { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فإذا كانت هذه حال الرسول وحال من اتبعه، وهي الحال التي تتعين للفلاح، وتتوقف عليها السعادة، وحالة أعدائه بضدها، فلا إيمان [لهم] ولا توكل، علم بذلك من هو على هدى، ومن هو في ضلال مبين.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
ثم أخبر عن انفراده بالنعم، خصوصًا، بالماء الذي جعل الله منه كل شيء حي فقال: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا } أي: غائرًا { فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ } تشربون منه، وتسقون أنعامكم وأشجاركم وزروعكم؟ وهذا استفهام بمعنى النفي، أي: لا يقدر أحد على ذلك غير الله تعالى.
تم برمجة هذا الموقع من قبل : Ahmeds.dev